فصل: تفسير الآيات (17- 19):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآيات (14- 16):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُولاً قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} [14- 16].
{وَلَوْ دُخِلَتْ} أي: يثرب: {عَلَيْهِم مِّنْ أَقْطَارِهَا} أي: بأن دخل عليهم العدوّ من سائر جوانبها، وأخذ في النهب والسلب: {ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ} أي: الرجعة إلى الكفر: {لَآتَوْهَا} أي: لفعلوها: {وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيراً} أي: وما توقفوا بإعطائها إلا ريثما يكون السؤال والجواب، أي: فهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به، مع أدنى خوف وفزع. وهذا منتهى الذم لهم، ثم ذكّرهم تعالى بما كانوا عاهدوه من قبل بقوله: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِن قَبْلُ} أي: من قبل هذا الخوف: {لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّه ِمَسْؤُولاً} أي: عن الوفاء به: {قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ} أي: لأنه لا يؤخر آجالهم، ولا يطوّل أعمارهم. بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة انتقاماً منهم، ولهذا قال: {وَإِذاً} أي: فررتم: {لَّا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً} أي: في الدنيا بعد فراركم، أو لأنهم فقدوا بذلك حظهم الأخروي، فمهما متعوا في الدنيا، فإنه قليل بجانب نعيم الآخرة للصابرين.

.تفسير الآيات (17- 19):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلاً أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً} [17- 19].
{قُلْ مَن ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُم} أي: يجيركم: {مِّنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءاً} أي: هلاكا أو هزيمة: {أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيّاً وَلَا نَصِيراً} أي: مجيراً ولا مغيثاً يدفع عنهم الضر: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنكُمْ} أي: المثبطين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم المنافقون. قال الشهاب: وقد: للتحقيق، أو لتقليله باعتبار متعلقه، وبالنسبة لغير معلوماته. انتهى {وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ} أي: من ساكني المدينة: {هَلُمَّ إِلَيْنَا} أي: أقبلوا إلى ما نحن فيه من الضلال والثمار: {وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ} أي: القتال: {إِلَّا قَلِيلاً} أي: إلا إتياناً قليلاً؛ لأنهم يتثبطون ما أمكن لهم: {أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ} أي: بخلاء بالمعونة والنفقة والمودة عليكم، أو أضنّاء بكم ظاهراً، إن لم يحضر خوفٌ: {فَإِذَا جَاء الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ} أي: في أحداقهم: {كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} أي: كنظره أو كدورانه: {فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُم بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ} أي: بالغوا فيكم بالكلام طعناً وذماً، فأحرقوكم وآذوكم، وأصل السلق: بسط العضو ومدة للقهر، كان يداً أو لساناً، ويجوز أن يشبه اللسان بالسيف على طريق الإستعارة المكنية، ويثبت له السلق وهو الضرب تخييلاً: {أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ} أي: على فعله: {أُوْلَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً}.

.تفسير الآيات (20- 21):

القول في تأويل قوله تعالى: {يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُم مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} [20- 21].
{يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا} أي: لم ينهزموا بما أرسل عليهم من الريح والجنود، وأن لهم عودة إليهم لخورهم واضطرابهم: {وَإِن يَأْتِ الْأَحْزَابُ} أي: مرة آخرى: {يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُم بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ} أي: فلا يذهبون إلى قتالهم، ولا يستقرّون في المدينة، بل يتمنون أنهم خارجون إلى البدو بين الأعراب، وإن لحقهم عار جبنهم: {يَسْأَلُونَ} أي: القادمين: {عَنْ أَنبَائِكُمْ} أي: عما جرى لكم، ثم أشار تعالى إلى أنه لا يضر خروجهم عن المدينة، لو أتى الأحزاب، بقوله: {وَلَوْ كَانُوا فِيكُم} أي: في حدوث واقعة ثانية: {مَّا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً} أي: رياءً وخوفاً من التعيير.
{لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: في أخلاقه وأفعاله قدوة حسن؛ إذ كان منها ثباته في الشدائد وهو مطلوب، وصبره على البأساء والضراء وهو مكروب ومحروب، ونفسه في اختلاف الأحوال ساكنة، لا يخور في شديدة ولا يستكين لعظيمة أو كبيرة، وقد لقي بمكة من قريش ما يشيب النواصي، ويهدّ الصياصي، وهو مع الضعف يصابر صبر المستعلي، ويثبت ثبات المستولي، ومن صبر على هذه الشدائد في الدعاء إلى الله تعالى، وهو الرفيع الشأن، كان غيره أجدر إن كان ممن يتبع بإحسان: {لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ} أي: رضوان الله، ورحمته، وثواب اليوم الآخر، ونجاته، فإنه يؤثرهما على الحياة الدنيا، فلا يجبن؛ إذ لا يصح الجبن لمن صح اقتداؤه برسول الله صلى الله عليه وسلم، لغاية قبحه: {وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً} أي: وقرن بالرجاء ذكره تعالى بكثرة، أي: ذكر أمره ونهيه ووعده ووعيده، فأدرك مواطن السعادة ومهاوي الشقاوة، وعلم أن في الثبات على قتل العدو، تطهير الأرض من الفساد، وتزيينها بالحق والصلاح والسداد، مما جزاؤه سعادة الدارين، والفوز بالحسنيين.
ثم بين تعالى ما كان من المؤمنين المخلصين في تلك الشدة، بعد بيان ما كان من غيرهم، بقوله سبحانه:

.تفسير الآيات (22- 23):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَاناً وَتَسْلِيماً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} [22- 23].
{وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي: لأنه تعالى وعدهم أن يزلزلوا حتى يستغيثوه ويستنصروه، في قوله: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ} [البقرة: 214]، وكذلك حدثهم الرسول صلوات الله عليه بالابتلاء والامتحان الذي يعقبه النصر والأمان: {وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ} أي: ظهر صدقهما فيما وعدانا به: {وَمَا زَادَهُمْ} أي: هذا الخطب والبلاء، عند تزلزل المنافقين وبث أراجيفهم: {إِلَّا إِيمَاناً} أي: بالله ورسوله، ومواعيدهما: {وَتَسْلِيماً} أي: لأمر الله ومقاديره.
{مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ} في الصبر والثبات، والقيام بما كتب عليهم من القتال، لإعلاء كلمة الحق، ومن العمل بالصالحات، ومجانبة السيئات: {فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ} أي: أدّى ما التزمه ووفى به، فقاتل مع الرسول صلّى الله عليه وسلم، صادقاً حتى قتل شهيداً.
قال الشهاب: أصل معنى النحب النذر، وقضاؤه الوفاء به. وقد كان رجال من الصحابة رضي الله عنهم نذروا أنهم إذا شهدوا معه صلّى الله عليه وسلم حرباً، قاتلوا حتى يستشهدوا. وقد استعير: قضاء النحب، للموت؛ لأنه لكونه لابد منه، مشبّه بالنذر الذي يجب الوفاء به، فيجوز أن يكون هنا حقيقة، أو استعارة من المشاكلة فيه. انتهى.: {وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ} أي: ما وعد الله به من نصره والشهادة على ما مضى عليه أصحابه: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً} أي: ما غيروا شيئا من العهد، ولا نقضوه كنقض المنافقين في توليهم: {وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ} [الأحزاب: 15]. ففيه كناية تعريضية تفهم من تخصيصهم به، والتصريح بالمصدر لإفادة العموم.

.تفسير الآيات (24- 25):

القول في تأويل قوله تعالى: {لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْراً وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً عَزِيزاً} [24- 25].
{لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ} أي: في عهودهم: {بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِن شَاء أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ} أي: كمال غضبهم بما أرسله من الريح والجنود، بفضله ورحمته: {لَمْ يَنَالُوا خَيْراً} أي: نصراً لا غنيمة: {وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ} أي: فلم يحوجهم إلى مبارزتهم ليجلوهم عن المدينة. بل تولى كفاية ذلك وحده، ولهذا كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم يقول: «لا إله إلا الله وحده، صدق وعده، ونصر عبده، وأعز جنده، وهزم الأحزاب وحده، فلا شيء بعده»: {وكَانَ اللَّهُ قَوِيّاً} أي: فلا يعارض قوته قوة شيء: {عَزِيزاً} أي: غالباً على أمره.
ذكر تفصيل نبأ الأحزاب المسمى بغزوة الخندق:
قال الإمام ابن القيم في زاد المعاد: كانت غزوة الخندق في سنة خمس من الهجرة، في شوّال على أصح القولين؛ إذ لا خلاف أن أُحداً كانت في شوال سنة ثلاث، وواعد المشركون رسول الله صلّى الله عليه وسلم في العام المقبل وهي سنة أربع، ثم أخلفوه لأجل جدب السنة، فرجعوا، فلما كانت سنة خمس جاءوا لحربه. هذا قول أهل السير والمغازي، وخالفهم موسى بن عقبة وقال: بل كانت سنة أربع. قال أبو محمد ابن حازم: وهذا هو الصحيح الذي لا شك فيه. واحتج عليه بحديث ابن عمر في الصحيحين: أنه عرض على النبي صلّى الله عليه وسلم يوم أُحد وهو ابن أربع عشرة سنة فلم يجزه، ثم عرض عليه يوم الخندق وهو ابن خمس عشرة سنة فأجازه. قال: وصح أنّه لم يكن بينهما إلا سنة واحدة. وأجيب عن هذا بجوابين: أحدهما- أن ابن عمر أخبر أن النبي صلّى الله عليه وسلم رده لما استصغره عن القتال، وأجازه لما وصل إلى السن التي رآه فيها مطيقاً، وليس في هذا ما ينفي تجاوزها بسنة أو نحوها.
والثاني- أنه لعله كان يوم أحد في أول الرابع عشرة، ويوم الخندق في آخر الخامس عشرة.
ثم قال ابن القيم رحمه الله: وكان سبب غزوة الخندق، أن اليهود لما رأوا انتصار المشركين على المسلمين يوم أُحد، وعلموا بميعاد أبي سفيان لغزو المسلمين، فخرج لذلك ثم رجع للعام المقبل، خرج أشرافهم كسلام بن أبي الحقيق، وسلام بن مشكم، وكنانة بن الربيع وغيرهم إلى قريش بمكة، يحرضونهم على غزو رسول الله صلّى الله عليه وسلم، ويوالونهم عليه، ووعدوهم من أنفسهم بالنصر لهم، فأجابتهم قريش، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم، ثم طافوا في قبائل العرب يدعونهم إلى ذلك، فاستجاب لهم من استجاب.
فخرجت قريش، وقائدهم أبو سفيان في أربعة آلاف، ووافاهم بنو سُلَيم بمرّ الظهران، وخرجت بنو أسد، وفزارة، وأشجع، وبنو مرّة، وجاءت غطفان، وقائدهم عيينة بن الحصن، وكان قد وافى الخندق من الكفار عشرة آلاف.
فلما سمع رسول الله صلّى الله عليه وسلم بمسيرهم إليه، استشار الصحابة، فأشار عليه سلمان الفارسي بحفر خندق يحول بين العدو وبين المدينة، فأمر به رسول الله صلّى الله عليه وسلم فبادر إليه المسلمون، وعمل بنفسه فيه وبادروا، وهجم الكفار عليهم، وكان في حفره آيات نبوّته وأعلام رسالته ما قد تواتر الخبر به، وكان حفر الخندق أمام سَلْع. وسلع جبل خلف ظهور المسلمين، والخندق بينهم وبين الكفار، وخرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم في ثلاثة آلف من المسلمين، فتحصن بالجبل من خلفه، وبالخندق أمامهم.
وقال ابن إسحاق: خرج في سبعمائة. وهذا غلط من خروجه يوم أُحد.
وأمر النبي صلّى الله عليه وسلم بالنساء والذراري فجعلوا في آطام المدينة، واستخلف عليها ابن أم مكتوم، وانطلق حُيي بن أخطب إلى بني قريظة، فدنا من حصنهم. فأبى كعب بن أسد أن يفتح له، فلم يزل يكلمه حتى فتح له، فلما دخل عليه قال: لقد جئتكم بعزّ الدهر، جئتك بقريش، وغطفان، وأسد على قادتها لحرب محمد. قال: قال كعب: جئتني، والله! بذل الدهر وبجهام قد أراق ماءه، فهو رعد وبرق. فلم يزل به حتى نقض العهد الذي بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم، ودخل مع المشركين في محاربته، فسرّ بذلك المشركون. وشرط كعب على حُيي أنه إن لم يظفروا بمحمدٍ، أن يجيء حتى يدخل معه في حصنه، فيصيبه ما أصابه. فأجابه إلى ذلك، ووفى له به. وبلغ رسول الله صلّى الله عليه وسلم خبر بني قريظة، ونقضهم للعهد، فبعث إليهم السعدين، وخوات بن جبير، وعبد الله بن رواحة ليعرفوه: هل هم على عهدهم، أو قد نقضوه. فلما دنوا منهم فوجدوهم على أخبث ما يكون، وجاهروهم بالسب والعداوة، ونالوا من رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فانصرفوا عنهم، ولحنوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم لحناً يخبرونه أنهم قد نقضوا العهد وغدروا. فعظم ذلك على المسلمين. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم عند ذلك: «الله أكبر! أبشروا يا معشر المسلمين». واشتد البلاء وتجهر النفاق، واستأذن بعض بني حارثة رسول الله صلّى الله عليه وسلم في الذهاب إلى المدينة وقالوا: بيوتنا عورة وما هي بعورة إن يريدون إلا فراراً. وهمّ بنو سلمة بالفشل، ثم ثبّت الله الطائفتين.
وأقام المشركون محاصرين رسول الله صلّى الله عليه وسلم شهراً، ولم يكن بينهم قتال؛ لأجل ما حال الله به من الخندق، بينهم وبين المسلمين، إلا أن فوارس من قريش منهم عَمْرو بن عبد ودّ وجماعة معه، أقبلوا نحو الخندق، فلما وقفوا عليه قالوا: إن هذه مكيدة ما كانت العرب تعرفها، ثم تيمموا مكاناً ضيقاً من الخندق فاقتحموه، وجالت بهم خيلهم في السبخة بين الخندق وسلع، ودعوا إلى البراز، فانتدب لعمرو عليُّ بن أبي طالب رضي الله عنه، فبارزه فقتله الله على يديه، وكان من شجعان المشركين وأبطالهم، وانهزم الباقون إلى أصحابهم. وكان شعار المسلمين يومئذ: حم لا ينصرون.
ولما طالت هذه الحال على المسلمين، أراد رسول الله صلّى الله عليه وسلم أن يصالح عُيينة بن حصن والحارث بن عوف، رئيسي غطفان على ثلث ثمار المدينة، وينصرفا بقومهما، وجرت المراوضة على ذلك، فاستشار السعدين في ذلك فقالا: يا رسول الله! إن كان الله أمرك بهذا، فسمعاً وطاعةً، وإن كان شيء تصنعه لنا، فلا حاجة لنا فيه. لقد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله، وعبادة الأوثان، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة إلا قرىً أو بيعاً، فحين أكرمنا الله بالإسلام، وهدانا له، وأعزنا بك، نعطيهم أموالنا؟ والله! لا نعطيهم إلا السيف. فصوّب رأيهما وقال: «إنما هو شيء أصنعه لكم، لما رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة».
ثم إن الله عز وجل، وله الحمد، صنع أمراً من عنده، خذل به بين العدو، وهزم جموعهم، وفلّ حدّهم، فكان مما هيأ من ذلك، أن رجلا من غطفان يقال له نعيم بن مسعود بن عامر، رضي الله عنه، جاء إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! إني قد أسلمت، فمرني بما شئت. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إنما أنت رجل واحد، فخذّل عنّا ما استطعت، فإن الحرب خدعة». فذهب من فوره ذلك إلى بني قريظة، وكان عشيراً لهم في الجاهلية، فدخل عليهم وهم لا يعلمون بإسلامه فقال: يا بني قريظة! إنكم قد حاربتم محمداً، وإن قريشاً إن أصابوا فرصةً انتهزوها، وإلا انشمروا إلى بلادهم راجعين، وتركوكم ومحمداً، فانتقم منكم. قالوا: فما العمل يا نعيم؟! قال: لا تقاتلوا معهم حتى يعطوكم رهائن. قالوا: لقد أشرت بالرأي. ثم مضى على وجهه إلى قريش. قال لهم: تعلمون ودي لكم ونصحي لكم. قالوا: نعم. قال: إن يهود قد ندموا على ما كان منهم من نقض عهد محمد وأصحابه، وإنهم قد راسلوه أنهم يأخذون منكم رهائن يدفعونها إليه، ثم يوالونه عليكم، فإن سألوكم رهائن فلا تعطوهم. ثم ذهب إلى غطفان فقال لهم مثل ذلك، فلما كان ليلة السبت من شوال بعثوا إلى يهود: إنا لسنا بأرض مقام، وقد هلك الكراع والخفُّ، فانهضوا بنا حتى نناجز محمداً. فأرسل إليهم اليهود: إن اليوم يوم السبت، وقد علمتم ما أصاب من قبلنا حين أحدثوا فيه، ومع هذا، فإنا لا نقاتل معكم حتى تبعثوا لنا رهائن. فلما جاءتهم رسلهم بذلك، قالت قريش صدقكم، والله! نعيم. فبعثوا إلى يهود: إنا، والله! لا نرسل إليكم أحداً، فاخرجوا معنا حتى نناجز محمداً. فقالت قريظة: صدقكم، والله! نعيم. فتخاذل الفريقان: وأرسل الله عز وجل على المشركين جنداً من الريح في ليال شاتية باردة شديدة البرد، فجعلت تقوّض خيامهم، ولا تدع لهم قدراً إلا كفأتها، ولا طُنُبا إلا قلعته، ولا يقر لهم قرار، وجند الله من الملائكة يزلزلونهم ويلقون في قلوبهم الرعب والخوف. وأرسل رسول الله صلّى الله عليه وسلم حذيفة بن اليمان يأتيه بخبرهم، فوجدهم على هذه الحال، وقد تهيأوا للرحيل. فرجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأخبرهم برحيل القوم، فأصبح رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وقد ردّ الله عدوه بغيظه، لم ينالوا خيراً، وكفى الله قتالهم، فصدق وعده، وأعز جنده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده.
ثم لما رجع رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيداً منصوراً، والمسلمون معه، ووضعوا السلاح، وكانت الظهر، أتى جبريل النبي صلّى الله عليه وسلم فقال: إن الله عز وجل يأمرك بالمسير إلى بني قريظة- وهم قبيلة من يهود خيبر- فإني عامدٌ إليهم فمزلزلٌ بهم. فأمر رسول الله صلّى الله عليه وسلم مؤذناً فأذن في الناس: «من كان سامعاً مطيعاً، فلا يصلين العصر إلا ببني قريظة». واستعمل على المدينة ابنَ أم مكتوم، وقدم رسول الله صلّى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب، رضوان الله عنه، برايته إلى بني قريظة، وابتدرها الناس، فسار علي، حتى إذا دنا من الحصون سمع منها مقالة قبيحة لرسول الله صلّى الله عليه وسلم، فرجع حتى لقي رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالطريق. فقال: يا رسول الله! لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث. قال: «لِمَ؟ أظنك سمعت منهم لي أذىً». قال: نعم، يا رسول الله. قال: «لو رأوني لم يقولوا من ذلك شيئاً». وتلاحق به الناس، وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة حتى جهدهم الحصار، وقذف الله في قلوبهم الرعب، ثم نزلوا على حكم رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فتواثبت الأوس فقالوا: يا رسول الله! صلى الله عليك وسلم، إنهم كانوا موالينا دون الخزرج، وقد فعلت في موالي إخواننا بالأمس ما قد علمت.
وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم، قبل بني قريظة، قد حاصر بني قينقاع وهم شعب من اليهود كانوا بالمدينة، وكانوا حلفاء الخزرج، فنزلوا على حكمه، فسأله إياهم عبد الله بن أُبي ابن سلول فوهبهم له.
فلما كلمته الأوس قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «ألا ترضون، يا معشر الأوس! أن يحكم فيهم رجل منكم؟» قالوا: بلى. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «فذاك إلى سعد بن معاذ».
وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد جعل سعد بن معاذ في خيمة لامرأة من أسلم، يقال لها رُفيدة في مسجده، كانت تداوي الجرحى وتحتسب بنفسها على خدمة من كانت به ضيعة من المسلمين، وكان رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد قال لقومه حين أصابه السهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رُفيدة حتى أعوده من قريب». فلما حكّمه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في بني قريظة، أتاه قومه فحملوه على حمار.
وكان رجلاً جسيماً جميلاً، ثم أقبلوا معه إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فلما انتهى إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم والمسلمين، قال صلّى الله عليه وسلم: «قوموا إلى سيدكم» فقاموا إليه فأنزلوه.
قال ابن كثير: إعظاماً وإكراماً، واحتراماً له، في محل وليته، ليكون أنفذ لحكمه فيهم. فلما جلس، قال له رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «إن هؤلاء قد نزلوا على حكمك، فاحكم فيهم بما شئت». وصارت تعرّض له الأوس أن يحسن إليهم، وتقول: يا أبا عَمْرو! إن رسول الله صلّى الله عليه وسلم قد ولاك أمر مواليك لتحكم فيهم.
فقال رضي الله عنه: عليكم عهد الله وميثاقه، أنّ الحكم فيهم لما حكمتُ. قالوا: نعم. قال: وعلى من ها هنا- في الناحية التي فيها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، وهو معرض عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم إجلالاً له- فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: «نعم». قال سعد: فإني أحكم فيهم أن تُقتل الرجال، وتُقسم الأموال، وتُسبى الذراري والنساء. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم لسعد: «لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبعة أرقعة». وفي رواية: «لقد حكمت بحكم الملك»- أي: لأن هذا جزاء الخائن الغادر- وكان سعد أصيب يوم الخندق، رماه رجل من قريش يقال له ابن العَرِقة، رماه في الأكحل. فكواه رسول الله صلّى الله عليه وسلم في أكحله. وقال سعد: اللهم! إن كنتَ أبقيت من حرب قريش شيئاً، فأبقني لها: فإنه لا قوم أحب إليّ أن أجاهد، من قوم آذوا رسولك، وكذبوه، وأخرجوه. اللهم! وإن كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم، فاجعل لي شهادة ولا تمتني حتى تقر عيني من بني قريظة. فاستجاب الله تعالى دعاءه، وقدرّ عليهم أن نزلوا على حكمه باختيارهم، طلباً من تلقاء أنفسهم.
ثم لما استنزلوا من حصونهم، حبسهم رسول الله صلّى الله عليه وسلم بالمدينة في دار، ثم خرج رسول الله صلّى الله عليه وسلم إلى سوق المدينة فخندق بها خنادق، ثم بعث إليهم فضرب أعناقهم في تلك الخنادق، يخرج بهم إليه أرسالاً، وفيهم عدو الله حُيي بن أخطب، وكعب بن أسد رأسُ القوم، وهم ستمائة أو سبعمائة، وسُبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم، وهذا ما ذكره تعالى من أمر بني قريظة، إثر أمر الخندق بقوله سبحانه: